شعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته
شعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته يعتبر من درة التاج في شعر الإحيائيين والشعر العربي الحديث بصفة عامة، فلم يختلف النقاد عليه ولا القراء، خاصة أن شعر الرثاء يُعد أصدق الشعر شعورًا دون أي تكلف أو الاستزادة من المحسنات البديعية، بجانب الظروف القاسية التي كانت على عاتق محمود سامي البارودي في إلقائه لتلك القصيدة، في هذا الموضوع يهتم موقع صفحات بطرح مقتطفات من شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته.
شعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته
في عام 1300هـ في شهر صفر بالتحديد فشلت الثورة العرابية، وتم نفي قادتها، ومن ساعد قادتها في قيامها، فتم نفي محمود سامي البارودي مع رفيقه أحمد عرابي وآخرين.
في تلك الأثناء كانت زوجة محمود سامي البارودي مريضة، وماتت بعد سنة من نفيه، فأنشدنا أكثر من قصيدة تُعد ناموس شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته التي تنير الدرب للشعراء من بعده إلى وقتنا هذا في باب الرثاء.
لكن قبل النظر في شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته يجب علينا التعرف على شخصية البارودي وترجمته، حتى تكمل الصورة الكلية لتلك القصيدة.
شاهد أيضًا: حكم واقوال عن الصداقة والوفاء
ترجمة محمود سامي البارودي
هو محمود سامي باشا بن حسن حسين بن عبد الله البارودي المصري شيخ الإحيائيين وعميد المدرسة التي نهضت بالشعر العربي من كبوته، قائد حربي شجاع وثوري، من أصول جركسية ينحدر من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي (أخي برسباي).
نسبة “البارودي” على مدينة إيتاي البارود في محافظة البحيرة في مصر حاليًا، وكانت التزامًا لأحد أجداده، تخرج في المدرسة الحربية، ودرس اللغات الفارسية والتركية في الأستانة، وقاد حملة عظيمة في مساندة القيادة التركية في ثورة جزيرة كريت في عام 1868م، كما كان قائد في الحرب الروسية التركية في عام 1877م.
تقلد مناصب عديدة حتى وصل إلى كرسي رئاسة النظارة، حتى استقال واشترك في قيادة الثورة العرابية (هوجة عرابي) التي انتهت بالفشل والقبض عليه والحكم بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم على النفي، وتم نفيه مع أصحابه إلى جزيرة سيلان، وظل في منفاه سبة عشر عاماً.
عفى النظام عنه في عام 1317هـ بعدما كف بصره، وعاد إلى مصر حينها، فكان منار للشعر العربي بعد إسفاف النظم الطويل، وجمع شعره في (ديوان البارودي) و(مختارات البارودي)
قصيدة شعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته
المتن الكامل للقصيدة الأشهر للبارودي في رثاء زوجته طويل جدًا سنقتبس منه بعض المقاصد مثل المطلع الذي يقول:
“أَيَدَ الْمَنُون ِقَدَحْتِ أَيَّ زِنَادِ *** وَأَطَرْتِ أَيَّةَ شُعْلَةٍ بِفُؤَادِي
أَوْهَنْتِ عَزْمِي وَهْوَ حَمْلَةُ فَيْلَقٍ *** وَحَطَمْتِ عُودِي وَهْوَ رُمْحُ طِرَادِ
لَمْ أَدْرِ هَلْ خَطْبٌ أَلَمَّ بِسَاحَتِي *** فَأَنَاخَ أَمْ سَهْمٌ أَصابَ سَوَادِي
أَقْذَى الْعُيُونَ فأَسْبَلَتْ بِمَدَامِعٍ *** تَجْرِي عَلَى الْخَدَّيْنِ كَالْفِرْصَادِ
ما كُنْتُ أَحْسَبُنِي أُرَاعُ لِحَادِثٍ *** حَتَّى مُنِيتُ بِهِ فَأَوْهَنَ آدِي
أَبْلَتْنِيَ الحَسَراتُ حَتَّى لَمْ يَكَدْ *** جِسْمِي يَلُوحُ لأَعْيُنِ الْعُوَّادِ
أَسْتَنْجِدُ الزَّفَراتِ وَهْيَ لَوَافِحٌ *** وَأُسَفِّهُ الْعَبَرَاتِ وَهْيَ بِوَادِي
لا لَوْعَتِي تَدَعُ الْفُؤَادَ وَلا يَدِي *** تَقْوَى عَلَى رَدِّ الحَبِيبِ الْغَادِي”.
نجد في المطلع أن الشاعر يمثل بعاطفة صادقة مقدار الحزن واللوعة التي أصابته بعد وفاة زوجته، ويعبر عن قرب زوجته من نفسه باستخدام أداة النداء الألف في قوله: “أَيَدَ الْمَنُون” فالألف في اللغة العربية للنداء القريب.
معاني الألفاظ والتحليل في المطلع القصيدة
تحتوي مطلع القصيدة العديد من المعاني، منها:
- المنون: المنية/ الموت، قدحت: أشعلت.
- أوهنت: أضْعفت
فيلق: الجماعة الكبيرة من الجيش. - خطب: المصيبة والفاجعة
ألم: نزل وحل
سوادي: قلبي وقد ينطق الجزء، ويراد به الكل لعظم الامر، فيذكر القلب ويشبهه بالجسم كله للدلالة على شدة الحزن، فبدلًا من أن يكون القلب وحده موطن الحزن، شمل الحزن الجسم كله. - أَقْذَى الْعُيُونَ: القذى هو ما يسقط في العين، ويجعلها تدمع ويصعب عليها الرؤية، فهنا جعل الأديب الحزن من شدته كأنه شيء مادي في العين.
الفرصاد: هو التوت الأحمر، فهنا استخدم الشاعر الاستعارة، فجعل العين كأنها التوت الأحمر منشدو الاحمرار الناتج عن البكاء، بل الصورة المركبة كانت في أن الدموع كانت مثل عصير هذا الفرصاد فكأنه الدم.
البيت كله كناية عن شدة البكاء. - أراع: أخاف وأرهب.
آدي: قوتي وهيبتي. - يلوح: يظهر ويبين.
العواد: العيادة هي زيارة المريض والعواد جمع اسم فاعل أي هم من يرون المريض. - استجد الزفرات: الزفرات هي الأنفاس الطويلة ذات الصوت المسموع الناتجة عن الحزن والإرهاق، المراد هو أجدد الزفرات لأستعين بها على المصيبة؛ آملًا أن تخفف ألمي.
العبرات: جمع عبرة وهي الدمعة في العين التي تأبى أن تنحدر وهي الحون المحبوس رغمًا في الصدر.
لوافح: اللُّفَّاحُ هو نبات عُشبيُّ معمَّرٌ سامٌّ طبّيٌّ، فيشبه الشاعر الدمع بأنها سامة مؤلمة، وذلك لشدة الحزن
بوادي: ظاهرة. - الغادي: الغدو هو الذهاب دون العودة، فالغادي هو الذهاب دون عودة.
شرح المقطع الأول
في مطلع قصيدة شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته نجده يصف حزنه بوصف الآثار المترتبة على حزنه هذا فبذلك يقوي المعنى وينعي نفسه.
فنجده يقول:
- يد الموت قد أشعلت النار في قلبه وجسده كله.
- إن الحزن قد أتعب قوته التي كانت مثل الجيش، وأثنت ظهره الذي كان مثل الرمح منتصباً.
- حتى إنه لم يستطع التفرقة بين إنه حزين أم أن سهماً قد أصاب قلبه.
- إن البكاء قد أحال عينه إلى اللون الأحمر مثل التوت الأحمر، والدموع لونها أحمر مثل لون هذا التوت الأحمر.
- يصف الشاعر حزنه بأنه لم يكن يعرف الحزن قلبه، ولم يكن يعتقد أن ذلك الشعور يحل بقلبه؛ حتى أصابته تلك المصيبة فأضعفت قوته.
- يقول الشاعر في البيت السادس أن الحسرة قد أضعفت جسمه، وأفسدته فأصبح يعوده الناس لمرضه.
- حتى إن الدموع التي من دورها التخفيف على ابن آدم، فكانت تأبى النزول من عينه، بل كانت حين نزولها تؤلمه أكثر وكأنها نبات سام يشربه، ومهما أراد أن يخفيها ليظهر قوياً، فتظهر تلك الدموع.
- في آخر المقطع ينهار الشاعر، ويستسلم فيقول إنه قليل الحيلة، ويقف أمام تلك المصيبة خالي الوفاض، فلا يترك الألم قلبه سالم، ولا تقدر يده على إرجاع زوجته الراحلة ليسكت ذاك الحزن القاتل.
المقطع الثاني من شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته
في المقطع الثاني من قصيدة شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته نجده يبدأ بمعاتبة الدهر/ الزمان الذي لا ينفع ولا يضر.
نجد أن ثقافة الشاعر الدينة تظهر جلية في نهاية المقطع فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهنا عن سب الدهر في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة أنه قال: “لا يَسُبُّ أحَدُكُمُ الدَّهْرَ، فإنَّ اللَّهَ هو الدَّهْرُ، ولا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الكَرْمَ، فإنَّ الكَرْمَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ” (صحيح مسلم 2247).
بينما في كامل المقطع نجد أن الشاعر يحادث الدهر ويلومه، وهذا يوحي بشدة حزنه، وأنه فقد صوابه بسببه، ويعود على رشده في البيت قبل الأخير، وبعده في البيت الأخير يتساءل هل يستعين على حزنه بالصبر القاسي أم يبحث عن السلوان الذي لن يجده؟!!
متن المقطع الثاني هو:
“يا دَهْرُ فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيلَةٍ *** كَانَتْ خُلاصَةَ عُدَّتِي وَعَتَادِي
إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِهَا *** أَفَلا رَحِمْتَ مِنَ الأَسى أَوْلادِي
أَفْرَدْتَهُنَّ فَلَمْ يَنَمْنَ تَوَجُّعَاً *** قَرْحَى الْعُيُونِ رَوَاجِفَ الأَكْبَادِ
أَلْقَيْنَ دُرَّ عُقُودِهِنَّ وَصُغْنَ مِنْ *** دُرِّ الدُّمُوعِ قَلائِدَ الأَجْيَادِ
يَبْكِينَ مِنْ وَلَهٍ فِرَاقَ حَفِيَّةٍ *** كَانَتْ لَهُنَّ كَثِيرَةَ الإِسْعَادِ
فَخُدُودُهُنَّ مِنَ الدُّمُوعِ نَدِيَّةٌ *** وَقُلُوبُهُنَّ مِنَ الْهُمُومِ صَوَادِي
أَسَلِيلَةَ الْقَمَرَيْنِ أَيُّ فَجِيعَةٍ *** حَلَّتْ لِفَقْدِكِ بَيْنَ هَذَا النَّادِي
أَعزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكِ رَهِينَةً *** فِي جَوْفِ أَغْبَرَ قَاتِمِ الأَسْدَادِ
أَوْ أَنْ تَبِينِي عَنْ قَرَارَةِ مَنْزِلٍ *** كُنْتِ الضِيَاءَ لَهُ بِكُلِّ سَوَادِ
لَوْ كَانَ هَذَا الدَّهْرُ يَقْبَلُ فِدْيَةً *** بِالنَّفْسِ عَنْكِ لَكُنْتُ أَوَّلَ فَادِي
أَوْ كَانَ يَرْهَبُ صَوْلَةً مِنْ فَاتِكٍ *** لَفَعَلْتُ فِعْلَ الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ
لَكِنَّهَا الأَقْدَارُ لَيْسَ بِنَاجِعٍ *** فِيها سِوَى التَّسْلِيمِ وَالإِخْلادِ
فَبِأَيِّ مَقْدِرَةٍ أَرُدُّ يَدَ الأَسَى *** عَنِّي وَقَدْ مَلَكَتْ عِنَانَ رَشَادِي
أَفَأَسْتَعِينُ الصَّبْرَ وَهْوَ قَسَاوَةٌ *** أَمْ أَصْحَبُ السُّلْوَانَ وَهْوَ تَعَادِي”.
معاني الألفاظ والتحليل في المقطع الثاني
من المعاني في المقطع الثاني:
- حَلِيلَةٍ: الزوجة المحبوبة.
- ضَنَايَ: من ضنى يضني، والواحد منه ضنيٌ وضنِ وهو المرض الذي لا ينفك أن يعود كما ظن صاحبه ان شفي منه.
الأسى هو الحزن - رَوَاجِفَ: مسببات الرجفة والرعشة من الحزن.
الأكباد: جمع كبد، ويستعار بالكبد للدلالة على شدة الحزن الباطني. - الأجياد: جمع كلمة جيد وهو العُتق (جانب الرقبة).
- وَلَهٍ: في محل مفعول لأجله، والوله هو الحزن الشديد مع الشوق على أحدهم الذي يسبب ذهاب العقل.
- صَوَادِي: جمع كلمة صادية، وهي الأرض العطشى المتشققة المشتاقة للماء المحترقة من حر الشمس، والتشبيه هنا بالقلوب كأنها أرض عطشانة محترقة من شدة الحزن.
- الْقَمَرَيْنِ: يقصد والدي الفقيدة وهنا استعارة تصريحية.
” حَلَّتْ لِفَقْدِكِ بَيْنَ هَذَا النَّادِي” الشطر كله كناية عن دخول الزوجة إلى القبر، ولم يصرح بذلك لشدة وقع ذلك على نفسه المحترقة بالحزن وعلى نفس المتلقي. - تَبِينِي: مشتق من البين وهو الفرق.
السواد: القلب. - فدية: ما يُدفع للأسير ليحل سبيله، فيقول الشاعر أن لو القبر يقبل الفداء، لكانت تلك المرأة هي أول من يُفدي وذلك لكرم شمائلها.
- يرهب: يخاف ويخشى، الشاعر في البيت يقول إن القبر لو كان يخاف شجاعاً كريمًا؛ لكان خل سبيل “الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ”.
الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ هو شاعر جاهلي وفارس عظيم قد كان قد اعتزل حرب البسوس المشتعلة بين قبيلتي تغلب وبني وائل، لكن لما قُتل ابنه “بجيرة” على يد المهلهل قد عزم على أخذ الثأر وأنشد لاميته شهيرة التي مطلعها:” كُلُّ شَيءٍ مَصيرُهُ لِلزَوالِ * غَيرَ رَبّي وَصالِحِ الأَعمالِ.
وَتَرى الناسَ يَنظُرونَ جَميعاً * لَيسَ فيهِم لِذاكَ بَعضُ اِحتِيالِ”.
فخاض الحرب وبه رجح كفة قومه، وقبض على المهلهل، فجز ناصيته وحل سبيله. - ناجع: نافع شافي.
- عِنَانَ: هو اللجام الذي يُقاد به الفرس (إذا كان بكسر العين)، أما إذا جاءت الكلمة بفتح العين فهي السحاب.
في هذا البيت يبرر الشاعر معاتبته للقدر في بداية المقطع بأن زوجته عندما ماتت أخذت معها رباطة جأشه.
شاهد أيضًا: عبارات شكر وتقدير للطالبات المتفوقات جاهزة
التعليق على باقي القصيدة
في باقي قصيدة شعر محمود سامي البارودي برثاء زوجته يستعرض بعض الأمم والممالك السابقة التي طواها الزمن ليجلب على قلبه السلوان ولا ينفعه ذلك أيضًا.
يختم قصيدته بأن يتذكر أن الموت هو نهاية كل حي متمثلًا قول كعب ابن زهير في لاميته: ” كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ *** يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ”
بينما يختم قصيدته بالدعاء لها بالمغفرة ولكل من مات وغطاؤه التراب فيقول:
” وَاسْأَلْهُ مَغْفِرَةً لِمَنْ حَلَّ الثَّرَى *** بِالأَمْسِ فَهْوَ مُجِيبُ كُل مُنَادِي”
في ختام القصيدة كلها يسلي نفسه بانه سيلقاها في الآخرة ويرسل لها التحية بقوله:
” قَدْ كِدْتُ أَقْضِي حَسْرَةً لَوْ لَمْ أَكُنْ *** مُتَوَقِّعَاً لُقْيَاكِ يَوْمَ مَعَادِي
فَعَلَيْكِ مِنْ قَلْبِي التَّحِيَّةُ كُلَّمَا *** نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الأَعْوَادِ”ُ.
بذلك نكون قد مررنا في عجالة على قصيدة شعر محمود سامي البارودي في رثاء زوجته بنقل المتن والتحليل الأدبي وبيان غريب الألفاظ، ولا تكاد كافة ما قدمه النقاد في التعليق على تلك الجوهرة الخالدة إلا قشور لما تحويه من عظيم معان وفاء وصدق المشاعر في الحزن، نرجو أن نكون قد أفدناكم.